أثر التشريعات الاجتماعية على ظاهرة البطالة
ملخص
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره , والصلاة والسلام على النبي المصطفى والحبيب المجتبى محمد بن عبد الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد ..............
تنبع أهمية هذا البحث من ضرورة تسليط الضوء على أزمة البطالة في ظل الظروف الراهنة, باعتبارها ظاهرة اجتماعية خطيرة, تهدد الأمن والاستقرار في بعض البلدان.
وتكمن إشكالية البحث في توضيح دور القانون في مكافحة مشكلة البطالة على المنحيين العلاجي والوقائي.
ولقد قسمنا هذا البحث إلى مبحثين تناولنا في الأول ماهية البطالة, ثم انتقلنا في المبحث الثاني للحديث عن آثارها ودور القانون في مكافحتها.
ومع أن البطالة بشكل عام معروفةٌ لدى الجميع, وهي محلٌ للعديد من الأبحاث والمؤلفات, إلا أننا وجدنا أنه من الضروري أن نتناولها في مبحث أول للتعريف بها وبيان أسبابها بما يتلاءم مع غاية البحث بشكل عام.
إن تحديد ماهية البطالة يتطلب إيجاد تعريف دقيق لها ومعرفة أسباب نشوئها, وهذا يقتضي الحديث عن الشخص المتعطل عن العمل وعن الشروط الواجب توفرها فيه.
تعريف البطالة
وتجدر الإشارة هنا إلى وجود نوع خاص من البطالة يسمى "البطالة المقنعة" أو "البطالة المستورة" وهي كما عرفها أحد الباحثين: " وجود زيادة في اليد العاملة بالنسبة للحاجة إليها مع الأخذ بعين الاعتبار الوسائل والطرق المتبعة " وهذا ما نشاهده كثيراً في الوظائف العامة في بلادنا فهناك الكثير من الموظفين بالمقارنة مع حجم العمل في المؤسسات والقطاعات العامة.
ونعتقد أن سياسة التوظيف الهادفة إلى قمع ظاهرة البطالة في بلادنا كانت سبباً في ظهور البطالة المقنعة.
أولاً: تعريف المتعطل عن العمل:
تعرض قانون العمل السوري رقم /17/ لعام 2010 للبطالة إلا أنه لم يتناولها بالتعريف مقتصراً على تعريف المتعطل عن العمل في المادة الأولى بأنه: " كل مواطن عربي سوري قادر على العمل ويرغب فيه ويبحث عنه ومتاح له إلا أنه لم يجد الفرصة لذلك ".
وبالعودة إلى التعريف السابق نجد أن المشرع السوري استخدم عبارة المتعطل بدلاً من العاطل وحسناً ما فعل, لأن المتعطل تفيد لغة بأن التعطيل ناتج عن أسباب خارجة عن إرادة الشخص, على خلاف المعنى الذي يتبادر إلى الذهن بالنسبة للعاطل عن العمل, إلا أننا نأخذ على التعريف السابق ما أضافه على شروط الشخص المتعطل عن العمل عندما ذكر بأن يكون العمل متاحاً له, فكيف يكون الشخص قادراً على العمل وراغباً فيه ويبحث عنه وهو متاح له ومع ذلك لم يجده.؟
ثانياً: الشروط الواجب توافرها في المتعطل عن العمل:
يمكن لنا من خلال التعريف السابق أن نحدد الشروط الواجب توافرها في الشخص حتى يمكن اعتباره متعطلاً عن العمل:
1- أن يكون الشخص قادراَ على العمل: أما الشخص الذي لا يستطيع العمل لأي سبب كان,(سواء لعجز أو لعته أو جنون أو لصغر أو شيخوخة أو لأي أمر آخر لا يمكِّن صاحبه من العمل) فلا يمكن اعتباره عاطلاً عن العمل لأنه لا يستطيع العمل أصلاً, حتى لو توفرت له الفرصة لذلك, وهنا لا بد من تحديد سن دخول القوة العاملة وسن الخروج منها فالصبية وكبار السن لا يكونوا من وجهة نظر القانون قادرين على العمل.
2- أن يكون الشخص راغباً بالعمل: وعدم الرغبة بالعمل يرجع إلى أسباب عديدة, فمنها ما يكون مرده العرف المتمثل بعزوف النساء عن العمل وتفرغهن للمنزل وتربية الأولاد, ومنها ما يرجع إلى الغنى وعدم الحاجة إلى العمل, ولعل أهم أسباب عدم الرغبة بالعمل هو تفرغ الشباب لدراستهم حتى ولو كانوا بحالة اقتصادية سيئة.
3- أن يقوم الشخص القادر على العمل والراغب فيه بالبحث عنه: ويجب أن يكون البحث جدياً ومستمراً.
والسعي وراء الرزق هو ما أمر به الإسلام, ويحضرنا هنا قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} صدق الله العظيم ( سورة الملك – آية 15). فالله سبحانه وتعالى يهب كل طائر رزقه ولكنه لا يلقيه له في العش.
ويجدر القول هنا أن المتعطلين عن العمل بوصفهم تجسيداً لظاهرة البطالة بعد استجماعهم للشروط السابقة, يجب أن يشكلوا فئة كبيرة من أفراد المجتمع, أما إذا كان عددهم محدوداً بالنسبة للعمال وعدد السكان فلا نكون بصدد بطالة في المجتمع.
ومن خلال الشروط الثلاثة السابقة في المتعطل عن العمل يمكن لنا أن نعرف البطالة بوصفها ظاهرة اجتماعية سيئة بأنها: " الحالة التي لا يتمكن معها عدد كبير من أفراد المجتمع القادرين على العمل والراغبين فيه من إيجاده على الرغم من سعيهم الدؤوب عنه ".
المطلب الثاني ــــــ أسباب البطالة
إن أسباب البطالة كثيرة, منها ما يتعلق بالسياسة الاقتصادية في المجتمع, ومنها أسباب ديموغرافية, وأخرى تتعلق بالقوانين المحلية والسياسة التشريعية, ويمكن لنا أن نحصر هذه الأسباب ضمن طائفتين, الأسباب العامة والأسباب القانونية.
أولاً: الأسباب العامة:
لا شك أن أهم هذه الأسباب تلك ذات الطابع الاقتصادي, فضَعف الإنتاج الزراعي, والتراجع الصناعي, وقلة الاستثمارات, وعدم القدرة على التشغيل الكامل لوسائل الإنتاج في بلد ما, سوف يؤدي حتماً إلى تقلص سوق العمل وعدم استيعابها لكل الأيدي العاملة في هذا البلد, الأمر الذي يفرض البطالة على المجتمع, وهذا ما يفسر الانتشار الأكبر لظاهرة البطالة في البلدان النامية.
ثانياً: الأسباب القانونية:
ليس من الغرابة أن تكون التشريعات المحلية النافذة في بعض الأحيان سبباً للبطالة أو لزيادة انتشارها, وهذا ما يحصل عند عدم دراسة الانعكاسات البعيدة المدى لبعض القوانين قبل إصدارها.
وعلى سبيل المثال فإن القانون الذي يقضي بزيادة الحد الأعلى لسن التقاعد وخاصة في القطاع الخاص, سوف يؤدي بالتأكيد إلى زيادة البطالة, ذلك أن استمرار العامل بالعمل بعد تقدمه في العمر سوف يؤدي إلى تفويت الفرصة على الشباب الراغبين في العمل والمستعدين له, وكذلك بالنسبة للقوانين التي تسمح بتشغيل الأحداث فهي تؤدي إلى نفس النتيجة, طالما أن هذا الحدث يمكن أن يأخذ دور الشاب في فرصة العمل, خاصة إذا علمنا أن رب العمل غالباً ما يفضل الحدث على البالغ لأن الأول يرضى بأجر أقل.
ومن جانب آخر فإن القوانين التي تسمح بتشغيل الأيدي العاملة الأجنبية, سوف تؤدي إلى حرمان عمال البلد من إيجاد العمل المناسب, أو تزجهم في منافسة مع الأجانب للوصول إلى فرص العمل المتوفرة, وهذا قد يؤدي إلى البطالة أو إلى زيادة انتشارها.
وننتقل الآن للحديث عن آثار البطالة ودور القانون في مكافحتها ونتناول فيها انعكاسات البطالة على المجتمع, ومدى فاعلية التشريعات الاجتماعية في حل مشكلة البطالة.
المطلب الأول ــــــ انعكاسات البطالة على المجتمع
لا شك أن البطالة تمثل خطراً بالنسبة للعامل بحد ذاته وخطراً أكبر بالنسبة للجماعة. فالبطالة بالنسبة للعامل تعني حرمانه من دخله وانخفاض مستوى معيشته هو ومن يعول, وإذا كان خطر البطالة يصيب العامل وهو قادر على العمل فلا يخفى أن ذلك يمثل مساساً بكرامته ويسبب له آلاماً نفسية جسيمة.
أما بالنسبة لأثر البطالة على الجماعة والمجتمع فهو أكبر وأخطر ويمكن لنا أن نحصر هذا الخطر في مجالات ثلاث: الاقتصاد والتعليم والأمن.
فلا شك أن البطالة تؤدي إلى تدهور الوضع الاقتصادي, الأمر الذي يؤدي إلى انخفاض درجة التعليم أو حتى انعدامها لدى الشباب العاطل عن العمل, أما بالنسبة لأثر البطالة على الأمن والاستقرار فهذا يحتاج إلى الوقوف عنده.
فمن وجهة نظرنا, نجد أن تفشي الجهل والأمية في صفوف المتعطلين عن العمل, ومصاحبة ذلك لعدم إيجادهم العمل الذي يسعون إليه, يؤدي في أغلب الأحيان إلى توجههم نحو الجريمة والعنف مع اختلاف الأسباب والدوافع, فمنهم من يقترف هذه الأفعال ليجد لنفسه مصدر رزق بعد فشله في الحصول على ذلك المصدر بشكل مشروع, فيلجأ إلى السرقة أو السطو أو الاحتيال.....إلخ, ومنهم من يصاب بأزمات وأمراض نفسية أهمها الحقد على المجتمع والنظرة العدوانية لطبقة الأغنياء فيه, فيسعون إلى أعمال العنف والتخريب ويقدمون على الإجرام ليعبروا عما في داخلهم.
وتجدر الإشارة هنا أن هذه القاعدة ليست مطلقة, إذ لا يشترط دوماً أن يكون المتعطل عن العمل جاهلاً, فكثيراً ما نرى بين صفوف المتعطلين عن العمل أناس من حملة الشهادات الجامعية المختلفة, ومن أبرز الأمثلة على ذلك الوضع الاقتصادي السيئ الذي يعانيه المحامون في سوريا اليوم, فقد وصلت البطالة بشكل واضح إلى صفوف هؤلاء المثقفين في الآونة الأخيرة لأسباب عديدة لا مجال للحديث عنها هنا, الأمر الذي نبّه نقابة المحامين في سوريا وفروعها في المحافظات إلى ضرورة السعي لمعالجة هذه الحالة بالتعاون مع الجهات المعنية المختصة, ورغم أن النقابة والجهات المعنية قد تأخرت كثيراً في إدراك هذا الأمر, فهي لم تفعل أي شيء حياله حتى الآن. ونعتقد أن معالجة هذا الوضع الخطير تستلزم إصدار تشريعات وقرارات سريعة وحاسمة ومدروسة.
ولا شك أن وقع البطالة أشد وطأة على المثقفين لما يصاحب ذلك من خيبة أمل ومساس بكرامتهم, وبالتالي فإن هؤلاء لا يفكرون بالجريمة بسبب الوعي الثقافي الذي يتمتعون به ــــ على الرغم مما تضمره الغالبية منهم من حقد على المجتمع واستنكار للسياسة الاقتصادية فيه ــــ بل يبحثون بشكل عقلاني عن مخرج للأزمة التي يعيشونها, فمنهم من يسعى للسفر إلى دولة أخرى يجد فيها فرصة العمل, ومنهم من يرضى بعمل بسيط لا يتناسب أبداً مع إمكانياته العلمية والثقافية كحل مؤقت لوضعه, وقد يتعاضد هؤلاء ويعملون بشكل جماعي باحثين عن حلول لمشكلتهم, وقد يتمكنون من إيصال معاناتهم ومطالبهم واقتراحاتهم بشكل علمي ومدروس إلى الجهات العليا المعنية في بلدهم ليصار إلى تحسين أوضاعهم.
ولعل الثورات الوطنية التي شهدها العالم العربي في كل من تونس ومصر في الآونة الأخيرة, ما هي إلا نتاج لتفكير الطبقة المثقفة من أبناء هاتين الدولتين, حيث جاءت الثورة كمخرج لأزمة البطالة المتفشية في هذين المجتمعين.
المطلب الثاني ــــــ مدى فاعلية التشريعات الاجتماعية في حل مشكلة البطالة
يجب التمييز في هذا الصدد بين التشريعات التي يصدرها المشرع لتفادي مشكلة البطالة الموجودة فعلاً في المجتمع ومحاولة الحد والتخفيف منها, وبين التشريعات القانونية التي يراد بها القضاء على أسباب البطالة في المجتمع وعدم ظهورها ثانية, وإذا كنا نحدد التشريعات ذات الطابع الاجتماعي وبخاصة قانون العمل كمعيار لهذا الأمر, فذلك لأن تلك القوانين هي الأقرب لهذه المشكلة والأقدر على معالجتها.
أولاً: التشريعات الصادرة لمعالجة مشكلة البطالة بعد ظهورها:
تهدف هذه التشريعات, كما قدمنا, إلى معالجة المشكلة بعد ظهورها في بلد ما, فوجود البطالة في أي مجتمع يفرض عليه السعي لاستصدار القوانين اللازمة لاحتواء هذه الظاهرة الخطيرة, والتقليص ما أمكن من آثارها السيئة.
وهذا ما فعله المشرع السوري على مرِّ السنين لمواجهة أزمة البطالة التي عانى منها المجتمع, حيث أصدر لمعالجتها العديد من القوانين والمراسيم التشريعية, وآخرها ما جاء في القانون رقم 17 لعام 2010 حيث نص على إحداث المكاتب العامة والخاصة للتشغيل بغية احتواء المتعطلين عن العمل وإعادة تفعيل دورهم في المجتمع.
ثانياً: التشريعات اللازمة للقضاء على أسباب البطالة:
تختلف هذه التشريعات عن سابقتها بأنها لا تسعى إلى معالجة أزمة البطالة المتفشية فحسب, وإنما تهدف إلى القضاء على أصل المشكلة بما يؤدي إلى عدم ظهورها في المجتمع ثانية.
ولا جرم أن هذه التشريعات هي الأنسب والأقدر على مكافحة البطالة في المجتمع, فالدواء الذي يتناوله المريض لعلاج أصل المرض وسببه يكون أنجع بالتأكيد من المسكنات التي يأخذها, وبمعنى آخر درهم وقاية خير من قنطار علاج.
وهذه التشريعات تعتمد بشكل رئيس على تشخيص المشكلة بشكل دقيق, ومعرفة أسبابها, وصولاً إلى إيجاد الحل المناسب لها, على ضوء الاعتبارات الاجتماعية والاقتصادية في البلد, ونعتقد أن قانون العمل تحديداً يعتبر مادة أساسية في مكافحة البطالة وقطع دابرها في المجتمع, وهذا يعتمد على صلابته ومثاليته في التطبيق, خاصة بعد توسع القطاع الخاص, وشغله لمرافق هامة في البلد, واحتكاره لمؤسسات خدمية رئيسة فيه.
وتجدر الإشارة هنا أن هذا الأمر هو ما يشغل جلّ اهتمام الحكومة في سوريا اليوم, حيث تشهد البلاد خطة اقتصادية متكاملة تسعى بالدرجة الأولى لمعالجة مشكلة البطالة وقطع دابر أسبابها.
وأخيراً ومن خلال ما سبق يمكن لنا أن نتوصل إلى النتائج التالية:
- بالإضافة إلى الأسباب الكثيرة التي تولِّد البطالة في المجتمع, وأهمها تلك ذات الطابع الاقتصادي, رأينا أن بعض التشريعات النافذة قد تكون في بعض الأحيان سبباً لانتشار البطالة.
- من أخطر آثار البطالة تفشي الجهل والأمية في صفوف المتعطلين عن العمل, وانتشار العنف والجريمة في المجتمع وزعزعة الأمن والاستقرار فيه.
- يمكن للمشرع أن يحتوي مشكلة البطالة وأن يخفف من حدتها ما أمكن, من خلال إصدار القوانين والمراسيم اللازمة لذلك, كما فعل المشرع السوري في عدد من التشريعات.
- إلا أن الدور الأهم الذي يلعبه القانون في مكافحة البطالة, يكون من خلال القضاء على أسبابها, والحيلولة دون ظهورها أصلاً في المجتمع.
بقلم: المحامي عبد الرزاق بن فاروق سفلو